حين يصنع المجتمع طواغيته من جمال عبدالناصر إلى بشار الاسد

عبدالحميد الغبين |

المسألة هنا ليست في حاكم بعينه أو دستور مكتوب على ورق، بل في العقل الجمعي الذي كوّنته قرون من التاريخ. السؤال الذي يجب أن نطرحه بلا مجاملة: هل الخلل في العقل العربي نفسه؟ أم في البيئة التي شكلته؟ أم في المكان الذي ولد فيه وتربى؟

إذا نزعت من سجل التاريخ فترة الصحابة حتى نهاية عهد عثمان بن عفان، ستجد أن الحكم في العالم العربي قام بالحديد والنار، وأن شرعية السيف كانت أقوى من شرعية العقل. وحين حاولت بعض الدول في القرن الماضي أن تزرع فكرة النظام المدني، وفصل السلطات، وتداول السلطة، كان الشارع هو أول من ثار عليها، ليس لأن النظام كان مستبدًا بالضرورة، بل لأن المزاج الجمعي لا يحتمل فكرة أن السلطة تُقيد بالقانون.

انظر إلى العراق قبل انقلاب 1958، كان هناك برلمان، وحياة سياسية، ومجتمع مدني يتشكل، لكن الملك فيصل الثاني سقط في مشهد دموي احتفى به الناس وكأنهم حرروا أنفسهم، بينما هم في الحقيقة أغلقوا باب الدولة الحديثة بأيديهم. في سوريا، ومصر، وليبيا، والسودان، تكرر المشهد نفسه، انقلابات عسكرية أطاحت بأنظمة لم تكن جنة الحرية، لكنها أيضًا لم تكن جحيم الاستبداد المطلق، ومع ذلك خرجت الجماهير تؤيد من جاء ليعيد إنتاج نفس المعادلة القديمة، رجل قوي، سلطة مركزية، وصوت واحد يعلو على الجميع.

هذه ليست مجرد صدفة تاريخية، بل هي نمط نفسي متجذر. المجتمعات التي تربّت على الطاعة القسرية لا ترى الحرية كحق طبيعي، بل كمنحة من الحاكم، فإذا غضب سحبها، وإذا رضي منحها. وهذه علاقة مختلة تشبه ما وصفه إتيان دو لا بويتي في كتابه “العبودية المختارة”، حين قال إن الناس قد يعتادون القهر حتى يصبح لهم مألوفًا، ويخشون الفقد إذا انقطع.

المشكلة ليست في شكل الحكم بقدر ما هي في البنية النفسية والاجتماعية التي تنتج نفس الحاكم مهما تغيرت الوجوه. هذا ما يسميه بيير بورديو “العنف الرمزي”؛ القبول الضمني بالهيمنة، ليس خوفًا من العقاب المادي فحسب، بل لأن البنية العميقة للوعي صارت عاجزة عن تخيل واقع بديل.

هذه المجتمعات تعاني اختلالًا نفسيًا، ثقافيًا سابقًا على الدولة؛ تغيير الحكم لا يجدي ما لم يُعالَج العطب الكامن في الذات الجمعية؛ فالخلل في العمق، في اللاوعي الجمعي، لا في الدستور ولا في الحاكم.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾