الدولة حين تفقد هيبتها… لا تعود دولة، بل مجرد جغرافيا بلا مركز.
سقوط هيبة الدولة لا يعني سقوط صورة، بل انكسار فكرة. الدولة ليست القوة، بل الشعور العام بأن هناك من يستطيع أن يقول: “كفى”. حين يُسلب هذا الشعور من صدور الناس، يسقط القانون، حتى لو كُتب بالدم.
السويداء لم تكن أزمة جغرافيا خارجة عن السيطرة، بل اختبارًا مكشوفًا لقدرة الدولة الجديدة على أن تُمسك بالخيوط بعد خمسة عقود من التهميش المتعمد. لا أحد يُولد متمردًا، بل يُصنع التمرد في الهامش، ثم يُضخّم في المركز، ليصير مبررًا لاستمرار النظام الذي خلقه.
خطأ الحكومة الجديدة التي يقودها أحمد الشرع لم يكن في ضعفها، بل في ثقتها الزائدة بمن أنهكته لعبة الزعامة. منحوا حكمت الهجري ما يشبه تفويضًا غير مباشر بإدارة الملف الدرزي، فاستغل لحظة الفراغ، ليعيد إنتاج نفسه كـعرّاب طائفة، لا كجزء من وطن.
ولأن المشهد كان يحتاج إلى دليل، جاءت تصريحات الهجري لتكشف عن تحوّل خطير في بنية التمرد؛ فقد أصدر بيانًا بدا وكأنه إعلان انتصار لا صوت مهزوم، قال فيه:
“يتم نشر حواجز تابعة للأمن العام خارج الحدود الإدارية لمحافظة السويداء، بهدف ضبط الاشتباك ومنع تسلل أي مجموعات إلى داخل المحافظة”.
و”يمنع دخول أي جهة إلى القرى الحدودية لمدة 48 ساعة من وقت الاتفاق، وذلك لإتاحة الفرصة لانتشار القوى الأمنية من الطرف الآخر، تجنبًا لأي هجمات مباغتة”.
وأكد أن “ما تبقى في الداخل من أبناء العشائر في مناطق المحافظة يُسمح لهم بالخروج الآمن والمضمون مع ترفيق مؤمن من الفصائل العاملة على الأرض دون أي اعتراض أو إساءة من أي طرف”.
هنا لم نعد أمام شيخ، بل أمام رجل يوزّع الصلاحيات كحاكم ظل، ويضبط إيقاع العنف ويُعيد رسم الجغرافيا، ليس بمنطق الدولة، بل بمنطق الكيان الطائفي المؤقت.
لكنه لم يكن وحيدًا. خلفه دول تنتظر لحظة تفكك، لا لتقاسم الأرض، بل لتدمير الفكرة، فكرة الدولة التي يتعايش فيها الناس بمختلف أديانهم وطوائفهم وأفكارهم. دول تدرك أن أكثر ما يهددها هو سوريا مستقرة، فيها قانون يُطبّق لا يُتلاعب به، وفيها درزي يعيش بكرامته لا تحت راية الهجري، وسني لا يعتذر عن هويته، وعلوي لا يُختزل في حزب.
الهجري أخطر من مجرد زعيم ديني خرج عن النص. هو رمز لـعُقدةٍ نفسية جماعية تشكّلت من التهميش، وتم تغذيتها بالخوف والوعود الزائفة. ما يطرحه ليس بديلًا للدولة، بل تحايلاً عليها. وحين تصل فكرة إلى هذه المرحلة، لا يُجدي احتواؤها، بل يجب تفكيكها حتى الجذر.
في المقابل، جاء موقف الرئيس السوري أحمد الشرع ليحاول إعادة تعريف الشرعية الوطنية، فقال:
“الدولة هي الوحيدة القادرة على حماية الجميع، واستقواء البعض بالخارج واستغلال أبناء السويداء لا يجلب المصلحة لأحد”.
وأضاف: “لا يجوز محاكمة الطائفة الدرزية بسبب تصرفات فئة قليلة”.
لكن هذا التمييز الأخلاقي–السياسي، وإن بدا ضروريًا، لا يكفي. فالفكرة التي تستقوي بالخارج لا تُجابه بالاحتواء فقط، بل بالتفكيك المعرفي والرد الحاسم.
ولعلنا نستطيع في خضم ضبابية المواقف أن نفهم تمامًا ما قاله روبرت غرين:
“لا تترك عدوك نصف ميت… لأنه سيُشفى، ويعود. اسحقه تمامًا، لا تبقِ له رمقًا، ولا أملًا.”
لكن لا بد من التوضيح: سحق العدو لا يعني القتل، بل سحق الفكرة التي سمحت له بأن يكون عدوًا في المقام الأول. لا نحتاج لرصاصة، بل لبوصلة.
إن فكرة الدولة التي يحلم بها السوريون لا يمكن أن تُبنى على رماد الطوائف، بل على جسد القانون. لا على الزعامات المتوارثة، بل على مؤسسات تستمد شرعيتها من الشعب، لا من الطائفة. السوريّ الذي صمد خمسين عامًا في وجه الاجهزة الأمنية القمعية، والتعذيب، والتهجير، والخوف، لن يقبل أن تُحكم بلاده اليوم باسم الحماية، سواء كانت حماية من عدو أم من شيخ.
وحين ننظر في مرآة السويداء، فإننا لا نرى مجرد تمرد، بل نرى صورة سوريا كلها في لحظة مواجهة مع ماضيها. نظام الأسد لم يرحل بالكامل، بل ترك وراءه جروحًا مزمنة، بعضها يخرج على هيئة غضب، وبعضها الآخر يظهر في شكل قادة صغار يبحثون عن مجدٍ مفقود على أنقاض سلطة ميتة.
هنا تبرز معضلة السوريين: هل يعيدون إنتاج نظام الأسد باسم الثورة، أم يؤسسون للدولة من الصفر؟
تجارب الآخرين حاضرة. لبنان في السبعينات كان أمام فرصة مشابهة، فاختار “البوسطة” بدل الدولة، فدخل حربًا أهلية. العراق بعد صدام فتّت الدولة تحت ذريعة الحقوق، فصار لكل طائفة قانون، ولكل زعيم جيش.
ونحن اليوم أمام السؤال ذاته، بلا زيف هذه المرة:
هل يريد السوريون، سوريا دولة قانون، أم أرخبيلًا من الزعامات المتخاصمة التي لا توحّدها سوى الهزيمة؟
إن لم تكن الإجابة بوضوح، ستُجيب الأحداث عنها. وساعتها، ستكون الإجابة دمًا جديدًا يُراق، لا فكرة تُبنى.